لو تأمّلنا قليلاً في إنهيار جدار برلين العلامة الفارقة الكبرى للحرب الكبرى فإنّنا لن نجد لا مدافع أو دبابات أو طائرات صبّت حممها فوق خطّ تقسيم برلين بعد الحرب العالمية، ولا ألغام ولا قتلى وجرحى وكوارث، بل معاول ومطارق وإرادات وتحرّكات شعبيّة قفزت فوق الجدارفحفرته بيديها وأصابعها وأسنانها وهشّمته. كانت تتأهّب خلال قرنٍ من التمتمة والعجز بإستخدام القدرات العقلية الذكيّة ووسائل الإعلام السلاح الرئيسي في هذا الإطار. كان التوق الى الوحدة أقوى من جيوش العالم كلّه وأشرس من الأسلحة الفتّاكة كلّها بعد العزلة والخوف والقلق وعدم الإستقرار.
الغريب أنّ جدراناً هائلة ترتفع بين دول الإقليم ودول الشرق العربي في عصور إنهيار الجدران والحواجز. وصرنا كلّ يوم نسمع بمصطلح"الدولة الفاشلة" حيث لا معايير ولا أخلاقيات ولا عدل أو إنصاف في تسمية تلك الدولة فاشلة وأخرى ناجحة. ربّما إختلفت العدّة الجديدة للحروب كليّاً، وبكلمات بسيطة صارت تقوم على إذكاء التآكل والإنهاك وزجّ الأوطان في صراعات الى حدود الإكراه ودفعها الى الإنصياع لإرادات الدول الكبرى. ويعاظم القلق عبر الضغوطات على الأنظمة العربيّة وحشرها، وتأزيم المواطنين فيها، وهو ما يحتاج الى وقتٍ طويل وصبر وإستراتيجيات معرفية هائلة. قد يحتاج الأمر أحياناً الى إرسال جيوش حديثة جاهزة فيها الرجال والنساء والأطفال المتعددي الجنسيات وفقاً لمفهوم صناعة الجيوش الوظائفية الحديثة. والأهمّ من هذا كلّه هو جعل جزء من حاملي هويّة دولة ما يتبرّمون وينتفضون ولو قمعوا على حتّى تبدأ السيادة بالإهتزاز.
كيف يدير الغرب حروب اليوم؟
يديرها من "المدن المتوحّشة العالمية" عبر تطبيق مصطلحين خطيرين تندرج تحتهما أهوال الحروب الحديثة التي نشهدها هما الإخضاع الداخلي والخارجي معاً وهو إكراه قد لا يقتل الدولة ولا يلغيها بل يحوّلها الى خانة المصطلح الثاني أعني "الدولة الفاشلة" في أسفل السلّم الدولي حسب تصنيفات المؤسسات الدولية التي تجوب المعمورة في وسائل الإعلام. وتعني الدولة الفاشلة تلك التي يدفعونها الى الضياعوالهلع والجهوزية لإمكانيات التخريب من داخل وإلاّ يتحرك الدولة العظمىعبر خطوات تنفّذ ببطء شديد تجعل المواطنين يذهبون للنوم والندمفيستيقظونليجدوا دولتهم لا تنام.
عندما نقول حروب اليوم، يفترض بنا الخروج نهائياً من التقليدية في تفكيرنا، فننظر من حولنا ونحاول فهم هذا الجيل من الحروب الحديثة التي ما عادت تقوم بين دولتين أو بين الجيوش النظامية، حيث كان ينتهي الأمر بعد المواجهة بهزيمة عسكرية عبر معارك متبادلة في الهجوم والدفاع ثمّ تندفع الدول الكبرى الى فرضالمعاهدات والتسويات كضرورات حتميّة إلاّ في الصراع العربي الفلسطيني. قد يكون العراق التجربة الأخيرة التي خرج منها الغرب بعدم إرسال قوات نظامية خارج الحدود.
تصبح الدولة المستهدفة المطلوب تفشيلها من داخل عاجزة عن التحكّم بمواطنيها عبر تأليب لمجموعات شريرة ومرجعيات قد تكون تابعة للدولة أو تابعة للخارج بما يجعل الدولة تتلاشى لكنها ما تزال موجودة. وهذا يعني الوقوع في شرك من يرعاها ظاهرياً كدولة فاشلة أي أن يتحكّم بها بعد أن تصبح مسرحاً للجرائم التي تفوق التصور.
بالإختصار، هذه هي الفوضى التي تقود الى الفشل. إنّها أشرس أنواع المؤآمرات.صارت الحروب ترتبط بالمعلومات الفوضويةووسائل الإتّصالالتي ترمي الشعوبوتلهيها في أودية Valley المعرفة الخبيثة وشعابها وفي صراعات إقتصادية ومذهبية وطائفيةبما يجعل التحكّم بهاميسوراً يتجاوز تكلفة الأرباح والخسائرالتقليدية في فضّ النزاعات. إنّه الوجه المظلم للعولمة الرافلة بثوبها الجميل فوق العقول والأصابع والثقافات والأوطان.
يستهلك حمّى العولمة الشرسة الكثير من تفكير البشروحبرهم وسلوكهم وأوطانهم وما زال، لكنّ اللافت أنّه مصطلح مطّاط عالمي شرس على الرغم من إحتفاظهبهويّته الأميركيّة الضبابيّة التي "تحكم" العالم وتعرّي دوله لتنعتها بالدول الفاشلة. كان مصطلح الدولة الفاشلة موجوداً في التاريخ حيث تجتمع الأمم وتتفاهم حول تفشيل دولة والبنك الدولي بالمرصاد. كان يصعب هضمه أو ضبط تداعياته التغيرية لا من العرب والمسلمين وحدهم، ولكن من الكثير الشعوب الأخرى الضعيفة، لأنّه حوّل الكرة الأرضية الى "عالمٍ مكشوف ومهدّد"إختلطت فيه المواقع والثقافات وهو ما سيستوقف الباحثين في تأريخهم للقرن الحادي والعشرين أمام ألفيّة جديدة قائمة على الكومبيوتر المختلف الأحجام والمتعدّد الوظائف والذي يتجاوز بإعتباره نقطة الإنتباه والجذب والتحدّي والتطوّر الأكثر وقعاً ربّما من هجمات 11 أيلول/سبتمبر أوحرب العراق أو غيرهما.
يعلن الفشل تحت فكرتين أساسيتين هما التغيير والتحوّل الدائمين بالقوّة والدماء من داخل، عبرثقافة الريبةوالزعزعة وفقدان الثقة.
إذن هناك علاقة وطيدة بين العولمة ولحروب شبكها العقل الأميركي؟
إرتبطت ولادة مصطلح العولمة بمارشال ماكلوهان(1911 ـ 1980) أستاذ الإعلام الكندي ومطلق "القرية الكونية" كتسميةً عالميّةوردت في كتابه:"الحرب والسلام في القرية الكونية"، ركّز فيه على تجربة الحرب الأميركيةالقاسية في فيتنام والدورالذي لعبه فيها التلفزيون عندماأخرجالناسمن خانة المشاهدين الى المشاركة في الآراء والمواقف ليختلطوا أو يندمجوا بشكلٍ كامل بالعسكريين حيث صارت الحروب العسكرية والإعلاميّة تمشي معاً ولو إفترقت بخطواتٍ تمهيدية أو لاحقة.
أليس من حقّنا أن نرذل هذا المصطلح "القرية الكونية" ومفاعيله التي نراها في بلادنا، فنسمّيها مثلاً "المدينة المتوحّشة" حفاظاً على صورة القرية بما تختزنه من وداعة وهدوء وخضرة وقيم وبساطة يمكن نعت بلادنا بها ولو أنّ المدن الكبرى وأودية السيليكون غارقة بالمساحات الخضراء أوتظلّلها الأبراج الشاهقة لكنّهاغارقة بالدهاليز والأفكار الشرسرةالمظلمة إذ تحمل الكثير من سوء العدالة والرفاهية والبؤس والحروب الحديثة والإكراه تمهيداً للإنقضاض على الطرائد.